سورة الأعراف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


قلت: {أن}: في هذه المواضع؛ مخففة من الثقيلة، أو: تفسيرية، وحذف مفعول: {وعد} الثاني؛ استغناء بمفعول وعد الأول، أو لإطلاق الوعد، فيتناول الثواب والعقاب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ونادى أصحابُ الجنةِ أصحاب النار أن قد وجَدَنا ما وعدنا ربُّنا} من النعيم {حقًا فهل وجدتم} أنتم {ما وَعَدَ ربُّكم} من البعث والحساب {حقًا}، إنما قال أهل الجنة ذلك؛ تبجحًا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وتحسيرًا لهم، فأجابهم أهل النار بقولهم: {نعم}، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، {فأذن مؤذن بينهم} بين الفريقين: {أن لعنةُ الله على الظالمين}؛ الكافرين، {الذين يصدُّون} الناس {عن سبيل الله} وهي الإسلام، {ويبغونها} أي: يطلبون بها {عِوجًا}، زيغًا وميلاً عما هو عليه من الاستقامة، أو يطلبونها أن تكون ذات عوج، {وهم بالآخرة كافرون} أي: جاحدون.
{وبينهما} أي: بين الفريقين {حجابٌ}، أو بين الجنة والنار حجاب، يمنع دخول أثر أحدهما للأخرى، {وعلى الأعراف}؛ وهو السور المضروب بين الجنة والنار، {رجالٌ}؛ طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم، كما في الحديث. وقال في الإحياء: يشبه أن يكونوا من لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، فلم تكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية، فلا وسيلة تقربهم، ولا جناية تبعدهم، ولهم السلامة فقط، لا تقريب ولا تبعيد. اهـ.
قلت: لكن سيأتي أنهم يدخلون الجنة.
ثم وصفهم بقوله: {يعرفون كُلاًّ} من أهل الجنة والنار، {بسيماهم}: بعلامتهم التي أعلمهم الله بها؛ كبياض الوجوه من أهل الجنة، وسوادها في أهل النار، أو غير ذلك من العلامات. {ونادوا أصحابَ الجنة}، إذا نظروا إليهم، فقالوا لهم: {أن سلامٌ عليكم}، أي: نادوهم بالسلام عليهم، {لم يدخلوها} أي: الجنة، {وهم يطمعون} في دخولها.
{وإذا صُرِفت أبصارُهم تلقاءَ أصحابِ النار} أي: التفتوا إليهم على وجه القلة، تعوذوا من حالهم، {قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} في النار.
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العي الكبير؛ نادوا أهلَ البطالة والتقصير، فقالوا لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا؛ من كشف الحجاب والدخول مع الأحباب، حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا كما وجدنا نحن؟ قالوا على وجه الدعوى والغلط: نعم، فأذن مؤذن بينهم، بلسان الحال: أن لعنة الله على الظالمين؛ الذين بقوا مع حظوظ أنفسهم، ولم يخرقوا شيئًا من عوائدهم، مع تراميهم على مراتب الرجال، وادعائهم بلوغ غاية الكمال، الذين يصدون عن طريق الخصوص ويبغونها عوجًا، وهم بالخصلة الآخرة وهي إشراق نور الحقيقة على أهل التربية هم كافرون، وبينما حجاب كبير، وهو حجاب الغفلة، فلا يعرفون أهل اليقظة، وهم أهل مقام الإحسان، بل بينهما مفاوز ومهَامِه، كما قال الشاعر:
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا *** فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا
وعلى الأعراف؛ وهو البرزخ الذي بين الحقيقة والشريعة، رجال من أهل الاستشراف، يعرفون كلاًّ من العوام والخواص بسيماهم، ونادروا أصحاب الجنة أي: الواصلين إلى جنة المعارف: أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون، لأنهم في حالة السير وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار، أي: نار الحجاب والتعب، وهم العوام، قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.


قلت: {ما أغنى} استفهامية أو نافية، و{ما كنتم}: مصدرية، و{ادخلوا}: محكى بقول محذوف، أي: قيل لهم ادخلوا... إلخ.
يقول الحقٌ جلّ جلاله: {ونادى أصحابُ الأعراف رجالاً} من رؤساء الكفرة، {يعرفونهم بسيماهم}؛ بعلامة فيهم من سوء حالهم، {قالوا} لهم: {ما أغنى عنكم جمعكم} أي: كثرتكم، أو جمعكم للمال، شيئًا أو أيّ شيء أغنى عنكم جمعكم، {وما كنتم تستكبرون}؟ أي: واستكباركم؟ {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالُهم اللهُ برحمةٍ} وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم في الدنيا، ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، قد قيل لهم: {ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون}. أو تقول الملائكة لأهل الأعراف: {ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون}، بعد أن حُبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا، تفضل الله عليهم، فقيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقيل: لما عيَّر أصحابُ الأعراف أهل النار، أقسموا أي: أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، فقال لهم الله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم برحمة ادخلوا} يا أهل الأعراف {الجنة}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أصحاب الأعراف: قوم من الصالحين حصل لهم محبة القوم، ليسوا من عوام أهل اليمين ولا من خواص المقربين، فإذا نظروا إلى أهل الطعن على الفقراء المتوجهين، والترفع عليهم، قالوا لهم: ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم، أهؤلاء الذين كنتم تطعنون عليهم، وأقسمتم أنهم ليسوا على شيء؟ قد قيل لهم: ادخلوا جنة المعارف لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وأنتم حصل لكم الخيبة، والحرمان، والأسر في أيدي النفوس، والحصر في سجن الأكوان. عائذًا بالله من ذلك.


قلت: {هدى ورحمة}: حال من مفعول {فصَّلناه}، {فيشفعوا}: جواب الاستفهام، {أو نُرد}؛ بالنصب: عطف عليه، وبالرفع: استئناف، فعلى الأول: المسؤول أحد الأمرين؛ إما الشفاعة أو الرد، وعلى الثاني: المسؤول الشفاعة فقط.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ونادى}، يوم القيامة، {أصحابُ النار أصحابَ الجنةِ أن أفيضُوا} أي: صبوا {علينا من الماء}، وفيه دليل على أن الجنة فوق النار، أو: صبوا علينا مما رزقكم الله؛ من سائر الأشربة، ليلائم قوله {أفيضوا}، أو: من الطعام؛ على حذف الفعل، أي: أو أعطونا مما رزقكم الله، {قالوا إن الله حرمهما على الكافرين}، أي: منعهما عنهم، {الذين إتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا}؛ كتحريم البحائر والسوائب، والتصدية حول البيت، والطواف به؛ عريانًا، وغير ذلك مما أحدثوه، واللهو: صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروي. واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به؛ لخلوه عن منفعة دينية، {وغرّتهم الحياة الدنيا}؛ بأن أنستهم القيامةَ، {فاليوم نَنساهُم كما نَسُوا لقاءَ يومهم هذا}، والكاف: أي: ننساهم؛ لأجل نسيانهم لقاء يومهم هذا، فلم يخطروه ببالهم، ولم يستعدوا له، {وما كانوا بآياتنا يجحدون} أي: نُهملهم لأجل إهمالهم الاستعداد للقاء، وإهمالهم آياتنا حتى جحدوا أنها من عند الله.
{ولقد جِئناهم بكتاب فصّلناه على علمٍ} أي: بيَّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ، مفصلةً {على علم}، أي: عالمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان، {وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون} فإنهم المنتفعون بهدايته ورحمته دون غيرهم.
{هل ينظرون} أي: ما ينتظر الكفار به {إلا تأويلَه}، أي: ما يؤول إليه أمره؛ من تبين صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، بقيام الساعة وما بعدها، {يوم يأتي تأويلُه}؛ بظهور ما نطق به، {يقول الذين نَسُوه من قبل}، ولم يؤمنوا به: {قد جاءت رسُل ربنا بالحق} أي: قد تبين أنهم جاؤوا بالحق، وحصل لهم اليقين حيث لم ينفع، ثم طلبوا من يشفع فيهم فقالوا: {فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا} اليوم، {أو نُردُّ} أي: وهل نرد إلى الدنيا {فنعملَ غيرَ الذي كنا نعملُ} فنستبدل الكفر بالإيمان، والعصيان بالطاعة والإذعان، أو: فيشفعوا لنا في أحد الأمرين: إما السلامة من العذاب، أو الرد إلى الدنيا فنستبدل الكفر بالإيمان. قال تعالى: {قد خسروا أنفسهم}؛ أي: بخسوها بسوء أعمالهم وكفرهم، {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} أي: غاب عنهم افتراؤهم فلم ينفعهم.
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير، وأفاض عليهم من ماء غيبه، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية؛ ناداهم أهل البطالة والتقصير: أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم الله منه، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف.
قالوا: إن الله حرمهما على البطالين؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى: فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء؛ فقلنا فيه: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ} [البَقَرَة: 106] إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10